الثقافة الكناوية بالمغرب
دراسة سوسيو ثقافية للاستاذ/ الباحث : محمد قاقة /
بدأت كناوة شيئا فشيئا تثير الرأي العالمي ومن ضمنه شريحة واسعة من المثقفين والباحثين والمهتمين فمن هم ؟ ومن أين جاؤوا ؟ وما هي مكوناتهم الثقافية ، وما طبيعة الدور الذي لعبوه داخل الأوساط الإجتماعية ؟ يعتمد التركيز في موضوع كناوة على العلاقات الأفرومغربية حيث تعتبرمن الأولويات، إذتزاوجت ثقافيا فيما بينها، لتنجب لنا في أخر المطاف مولودا في شقه الأول، أحاسيس ارث إفريقي تغريبي، وفي شقه الثاني سمات ومواصفات إسلامية عربية بربرية تقليدية. إن ثقافة كناوة في محتوى خطابها وأبعادها العامة جاءت لتحيي ذكرى الإحتفال بماضي ما قبل التحرر أي الحرية من جديد أو بالأدق ذكرى الخلق أي خلق الإنسان الكناوي من جديد للحصول على حريته الكاملة، وهو ما نلمسه جيدا من خلال إحدى الآليات الفنية لكناوة ( القرقبة الحديدية ) التي تشبه جزء من السلسلة الحديدية، التي كان يكبل بها عبيد كناوة الأوائل من الأرجل خلال عملية العرض للبيع، فتحدث أثناء المشي إيقاع موسيقي يشبه إلى حد كبير إيقاع القرقبة الحديدية، فجاءت هذه الثقافة لتحكي المعاناة والإستعباد والقهر والعنف الذي يذهب في بعض الأحيان إلى حد التصفية الجسدية لبعض عناصر كناوة القدامي، ولتأكيد صحة ما نقول نسوق مثالا من داخل المتن الكناوي الشفاهي مأخوذ من النكشة من مقطع خالي مبارا. ( أي الآتي من منطقة بامبرا): الله الله مـــولانــا الله اللـه مــولانـا الله الله مـــولانــا خالي مبـارا مسكيـن سيدي ياكل اللحيمـة لالة تاكـل الشحيمـة مبـارا يكـدد العظـيـمة سيدي نعســــو قبة للالة تنعسـو قبــة مبـارا ينعس في الزنقـة سيدي لبسو بلغـــة للالة لبـسو بلغـــة خالتي مبـارا هنكــارة سيدي شربـوشـرورو للالة شربــوشربـو خــالي مبـارا ليقامـة… هـذا وعـدو مسكيـن وهو ما يبين التعبير عن المعاناة والقهر والإستعباد بإخراج موسيقي فرجوي روحي. وكاستنتاج، لكل ما ذكر ، فثقافة كناوة لم ترحل عن موطنها الأصلي بطيب خاطرها بل على العكس من ذلك ,أتت تحت الضغط والإكراه مما ولد لدى كناوة الأوائل هاجس الخوف من التعذيب والموت حيث لم يكن أي شيء أرخص من الإنسان الكناوي المغلوب على أمره في ظل هذه الظروف المزرية والعصيبة : تندرج دراسة عبيد كناوة “، ضمن التاريخ الإجتماعي ، باعتبارهم فئة اجتماعية لها وظيفيها وحركيتها ودورها … ونذهب في ذلك إلى استحضار عاملين، الأول يتعلق بالبعد التاريخي الذي يهدف إلى إماطة اللثام عن تطور هذه الفئة الإجتماعية في الزمان والمكان، والعامل الثاني يرتبط بالبعد الإجتماعي الذي يسعى إبراز هذه الفئة الإجتماعية في محيطها وعلاقتها بمكونات المجتمع من خلال دخول عناصر ” عبيد كناوة ” القدامى في علاقة مع السلطة السياسية بحكم انتشارهم في مؤسساتها الإدارية، والإقتصادية والعسكرية خاصة، وهو ما يعطي الضوء لدراسة المجتمع من جانب محدد هو “عبيد كناوة” مما لا شك فيه أن كناوة أو ” التاكناويت ” كما يتداولها أصحابها جاءت نتيجة انتقال ثقافة مجتمع جنوب الصحراء إلى المغرب أيام حكم السعديين، وبالضبط فترة تولي السلطان أحمد المنصور الذهبي ( 1578-1603) ، في إطار بناء مشروع وطني تم التخطيط له سابقا، من بين أولوياته ضم أقاليم جنوب الصحراء، وتوفير موارد مالية لمواجهة متطلبات بناء وتحديث الدولة المغربية ، لتصبح قوة تساهم في التخطيط السياسي الإقليمي قي غرب إفريقيا ، امتدت حدودها إلى ما وراء نهر النيجر، وفي هذا الخضم تدخل استراتيجية ضم بلاد السودان التي كشفت عن وجود موارد جديدة وهامة، ساعدت في تخفيف العبئ على خزينة الدولة، وشجعت الساسة السعديين على خوض غمار المنافسة السياسية والإقتصادية مع الأتراك المتواجدين جهة الشرق ، والأوربيين في الشمال. ما يستنتج ، أن الأوضاع المهيئة والملائمة لتجديد هيكل البلاد السياسي، الذي رشح السعديين للحكم. كانت بمثابة الأرضية الخصبة التي نمت فيها بذور الثاقافة الكناوية. إذن منهم كناوة ؟ ومن أين جاؤوا ؟ وما هي مكوناتهم الثقافية والمعرفية، وما طبيعة الدور الذي لعبوه داخل الأوساط الإجتماعية ؟ من الواضح أن السياسية التوسعية لحكومة مغرب السعديين ساهمت إلى حد كبير في هبوب رياح الثقافة الكناوية على المغرب عن طريق الملح والتبر والعبيد، حيث اعتمدت في بناء دعائمها على الموروث الإفريقي للعبيد السود الأوائل الذين أرغموا وأكرهوا على مغادرة موطنهم الأصلي، باتجاه أنحاء مختلفة من المعمور من بينها المغرب على وجه الخصوص، وهو ما دفع بهذه العناصر إلى التأقلم مع الأوضاع المحلية الإقتصادية والإجتماعية والفكرية الروحية، لضمان استمراريتهم، والحفاظ على مقومات عاداتهم وتقاليدهم، مما سمح لهم لا حقا بلعب أدوار أساسية في حياة المجتمع المغربي، خلال بعض الفترات التاريخية، توجت في البداية بتشكيل عبيد دار المخزن، ” كحرس وطني “، أسندت إليه مهمة حماية الممتلكات والمؤسسات والحدود، في حين ساهم الجزء الآخر من هؤلاء العبيد السود ، في بناء اقتصاد الدولة ، لما مثلوه من يد عاملة رخيصة، لها مردودية وإنتاجية كبيرة لم تكلف الخزينة السعدية في الشيء الكثير من جراء اشتغالهم الدؤوب في مزارع قصب السكر، والحقول والموانئ البحرية، ومن هؤلاء تشكلت الدفعة الأولى من كناوة وتسمى بعبيد لالة كريمة أو ما يعرف الآن ( بكناوة الشلحاوي). كما لا نغفل بعض الجوانب السلبية لضم السودان، حيث سيعرف سكان المغرب لأول مرة، دخول عادة سيئة متمثلة في تدخين التبغ، التي حملها السودانيون إلى مراكش ثم فاس أثناء قدومهم أواخر القرن 16 حيث انتشر تدخين مادة ” طابة ” بسرعة وأقبل عليه مختلف فئات المجتمع. وعلى العكس من ذلك ، تعتبر فترة حكم السلطان المولى إسماعيل 1672/1727، خلال العهد العلوي الأول، فترة ذهبية في تاريخ كناوة، حيث لاحت في الأفق انفراجات بدأت بالإهتمام ورد الإعتبار لفئة العبيد السود داخل المغرب، بانخراطهم في المؤسسة العسكرية، نتيجة تجديد المخزن الإسماعيلي للدعائم العسكرية ، والإدارية ، والإقتصادية حيث عمل السلطان على تجميع وتجنيد كل العبيد السود والحراطين,الذين كانوا في ملكية خاصة، ومن العبيد الذي أتى بهم أبي حسون السملالي من مملكة بامبرا لمحاربة المولى الرشيد، حيث قام بتسريحهم فيما بعد، فعمل المولى اسماعيل على ضم كل هؤلاء في جيش البخاري أو ” البواخر “، وبنيت لهم في هذا الشيئان إقامات عسكرية خاصة بهم سميت بقصبات كناوة، بلغت في مجملها 76 قصبة حسب الزياتي، وبعد وفاة المولى إسماعيل طرأ تغير على هذه الفئة حيث ارتمى عناصرها في أحضان السياسية وكان لهم دور في سلسلة من المبايعة والخلع لما يناهز إحدى عشر سلطانا، وقد تدبدبت مواقفهم بين المعارضة والتأييد والموروت الشعبي المغربي يحتوي على العديد من الأمثلة نورد منها ما قبل ” من قلة الوالي أصبح العبد خالي” دليلا على أن المحسوبية وصلت دروتها بل بدأ العبيد كسادة في زمن الرداءة واختلال القيم. ونذكر في هذا الصدد تولي أحمد بن مبارك من عناصر عبيد جيش البخاري مهام الحجابة … لمدة ثلاثين سنة وتوارث أبناؤه من بعده هذا المنصب إلى نهاية القرن 19. وكان بمثابة مستشار يلازم السلطان أينما حل وارتحل. من هنا نلاحظ أن العبيد السود، أصبحت لهم أهمية كبيرة، بعدما كانوا يعيشون من قبل في قاعدة الهرم الإجتماعي، وبفعل مساهمتهم في الأزمة السياسية التي أعقبت وفاة المولى إسماعيل، عمل السلطان سيدي محمد بن عبد الله على إعادة انتشارهم في ربوع المغرب لإبعادهم من التدخل في الأمور السياسية، ومنذ ذلك الوقت عرفت بعض المدن بكناوة مثل طنجة، فاس، مكناس ، الرباط، سلا، مراكش، الصويرة وآسفي . وفي هذه الفترة بالذات و نتيجة استقرار الأوضاع بالمغرب، سيتم تسريح بعض هؤلاء العبيد من الخدمة العسكرية مما دفع بهم إلى امتهان حرف أخرى كالقيام بإحياء الليالي الكناوية التي كان دورهم فيها يقتصر على الإستشفاء والعلاج من بعض الأمراض, هذا في الوقت الذي عرف فيه التصوف اكتساحا للساحة المغربية. فكان لزاما على كناوة أن يتكيفوا مع الوضع الراهن ويصنعوا لأنفسهم رمزا روحيا ، ذهب إلى حد تأسيس ” زاوية سيدنا بلال ” بالجانب الغربي لمدينة الصويرة لتعود عليهم بالنفع لما تعرفه من استقبال للهبات والصدقات والتبرعات وهذه الفئة تسمى بعبيد سيدنا بلال أو ( كناوة المرساوي) . إن ثقافة كناوة في الوقت الحاضر تستدعي الكثير من الدارسين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم إلى الإلتفاف حولها لما تطرحه من إشكاليات ذات أبعاد إنسانية هاة تتعلق بالوحدة والتعايش وبما أن هذه الثقافة وافدة فقد تأثرت بالإسلام المغربي وأثرت على ثقلفة المجتمع من خلال طقوس الدردبة أو- الليلة الكناوية – ورغم كل الظروف المأساوية التي تعرض لها عبيد كناوة من معانات وتشتت وانهيارنفسي فقدعرفوا كيف يحافظواعلى مقومات ثقافتهم التي تجيب بالحال أكثر من المقال. ولكي نقوم بدراسة معمقة لهذه الثقافة ومايكتسيها من غموض ويغلب عليها طابع الحكي, كان لزاما علينا معرفة جدورها السوسيو تاريخية, وللدخول إلى صلب الموضوع يجب أولا وقبل كل شيءاستحضار السياق التاريخي الذي أفرز لنا هذا اللون التراثي الذي يحمل في طياته تراكمات ثقافية إفريقية مغربية متمازجة ومصحوبة في أحيان كثيرة بالغرابة والطقوسية المفرطة أتت في إطار العلاقات المغربية السودانية, والتي كان فيها للمغرب حصة الأسد في استكشاف ماوراء الصحراء جنوبا, حيث ضل على اتصال دائم مع إفريقيا الداخلية سواء في صورة توجه سلمي في إطار العلاقات التجارية – تبادل البضائع يحتوي ضمنيا تبادل أفكاروتقاليد ثقافية وحضارية – أو في إطار توجه مسلح في حالة الغزو.وفي خضم هذا الأخير تأتي الحملة على بلاد السودان ,التي كان من نتائجها استجلاب المخزن السعدي في عهد السلطان أحمد المنصور الذي لقب بالذهبي 1579-1603 لأعداد كثيرة من الذهب والعبيد,وسك عملة ذهبية وطنية كان لها تأثير جيد على المبادلات التجارية , فكان دخول هؤلاء العبيد إلى المغرب دخولا مباركا ميموناعرف أثناءه الإقتصاد المغربي انتعاشا عند قدومهم , لما شكلوه من يد عاملة رخيصة لم تكلف خزينة – مغرب السعديين – مصاريف كثيرة, فألحق جزء منهم بالمؤسسة العسكرية وجزء آخر دفع بهم إلى تطوير زراعة وصناعة قصب السكر في بعض مناطق حاحا , حيث بنيت لأجل ذلك مصانع خاصة لهذا الغرض.وقد شكل هؤلاء العبيد, فعليا الموجة الأولى لظهور كناوة أوما يعرف داخل الأوساط العامية بعبيدات الشلوح أو إسمكان أو عبيد للالة كريمة وكان أغلبهم من عبيد بامبرا.ومن جهة أخرى يقول- بول بويلز” أتيت إلى المغرب هذه المرة ، وبعد ستين سنة خلت من مجيئي إليه في المرة الأولى وجدت أثنائها كناوة يتكلمون لغتهم الأصلية التي هي لغة شعب البامبرا ببماكو . وكاستنتاج نخلص إليه يمكن القول أن – مغرب السعديين- فتح الباب على مصراعيه أمام دخول أساليب اجتماعية وافدة أثرت وتأثرت لتشكل لنا في النهاية ثقافة كناوة أو التاكناويت كما يتداولها أصحابها.